مقالات الامير حسن
د.علي فخرو

هذه ملاحظات كانت حصيلة النظر لمشهد الحراك التاريخي العربي السياسي الحالي:

الملاحظة الاولى تتعلق بالشعارات السياسية التي طرحتها لافتات المسيرات والاعتصامات. فالشعارات الناجحة تحتاج ان تركز على الاولويات المفصلية الكبرى, وان تكون وطنية جامعة تقبلها اغلبية كبيرة من مكونات المجتمع, وان لا تغفل اهمية التوازنات والثوابت الاقليمية او القومية وكذلك اهمية تعاطف الخارج معها, وان لا تصاحبها مظاهر رمزية فئوية يُشتَّم منها الطائفية او العرقية او القبلية, وعلى الاخص ان لا تصطدم بمرتكزات تاريخية ودستورية قامت عليها الدولة وتَوافَقَ عليها المجتمع عبر سنين طوال. ولذلك, فان شعارا بالغ الخطورة مثل إسقاط النظام قد يكون طرحه ملائما في قُطر عربي معين, اذ تتوفر فيه اغلب المتطلبات السابقة الذكر, لكن طرحه في قطر عربي آخر غير ملائم بسبب عدم توفر اغلب تلك المتطلبات.
مثال آخر هو طرح شعار سياسي فرعي آني مربك للحراك السياسي ومعقد له, بينما يعرف الجميع ان تحقق ذلك الشعار سيكون تحصيلا حاصلا اذا تحقق مطلب آخر لكنه مفصلي كبير مثل المطالب الدستورية او القانونية - فاذا كنت تطالب بنص دستوري يلزم ان تكون الحكومة في المستقبل حكومة منتخبة - فما الحكمة من الدخول في مماحكات وصدامات مع هذه الجهة او تلك بشأن شعار إسقاط حكومة حالية ستتغير طبيعتها وتركيبتها في المستقبل المنظور اذا حصلت على المطلب الدستوري? أليس في ذلك ممارسة عبثية في المسرح النضالي السياسي وانتهاء بالفروع على حساب الاصول?

الملاحظة الثانية تتعلق بشروط الدخول في الحوارات والمفاوضات بشأن المطالب. ان يوضع شرط تحديد زمن معقول لفترة الحوار فهذا مقبول, حتى لا يدور الحوار حول نفسه لسنين طوال. ان توضع قائمة بالنقاط التي ستناقش, حتى لا يضيع الحوار في متاهات لا اول لها ولا آخر, فهذا معقول ايضا. اما ان توضع شروط فرعية كثيرة, يمكن مناقشتها وتحقيق بعضها في اولى جلسات الحوار, هذا في الوقت الذي يموج الشارع بأحداث يومية قد تنحرف عن مساراتها لهذا السبب او ذاك, فان الشروط قد تصبح عقبة تؤجل الدخول في الحوار الجدي المطلوب وتضيع الوقت وتؤدي الى ملل وتعب الجماهير المساندة للحراك السياسي.

وتتعقد الامور اكثر عندما يطالب البعض بضمانات لنجاح الحوار, خصوصا اذا كانت تلك الضمانات ستكون دولا خارجية او شخصيات اجنبية. والواقع ان الحراكات السياسية التي لا تعتمد على حيوية الجماهير كضامن وحيد لنجاح اي حوار او تفاوض, ولا تؤمن بقدرة تلك الجماهير على العودة للشارع عند تعثر الحوار او التفاوض, انما تعبر عن إفلاسها وعقمها وضعف علاقتها بجماهيرها.

الملاحظة الثالثة تتعلق بالخلط بين حق حرية التعبير وبين حق حرية الفعل. ان تمارس الحق الاول, حق التعبير الحر عن شعاراتك السياسية ومطالبك, بشرط عدم السقوط في الشتم والجرح والابتذال, فهذا مكفول في الدساتير وقوانين حقوق الانسان. اما حرية الفعل كسد طريق بالحواجز او احتلال باحة أبنية, فانه اعتداء على حقوق الآخرين, وبالتالي لا يمكن ممارستها.
الملاحظة الرابعة تتعلق بالسماح بالدخول المفاجئ للمسرح من قبل الموتورين الطائفيين او الثوريين الحالمين او الانتهازيين الرّاكبين موجات الغير. وسواء كانوا من المتنطعين للقيادة المفاجئة او من الكتبة المملوءة نفوسهم بالحقد والكراهية لهذه المجموعة او تلك ممن يطلون على شاشات التلفزيون المحلية والاقليمية والعالمية ليتهموا ويشتموا, فانهم جميعا يشوهون ويدنسون مطالب سياسية شرعية ومعقولة, هي في صالح الجميع, ليقلبوها الى مطالب فئوية مختلف عليها ومشكوك في نيّة من رفعوها في الاصل هؤلاء ينطبق عليهم قول بليغ للشاعر الانجليزي سامويل كولرج: الشخص الذي يبدأ بحبه المسيحية اكثر من حبه للحقيقة ينتقل الى حبه لمذهبه اكثر من مسيحيته, لينتهي بحبه لنفسه اكثر من كل الآخرين: فالذين لا يهمهم الحق مهما كان ناصعا, ولا تهمهم احوال الآخرين مهما كانت مفجعة ينتهون بان يكونوا من المتعصبين الذين وصفهم الشاعر جون كيتز بأنهم ينسجون بأحلامهم جنّة لمذاهبهم وطوائفهم.

هؤلاء جميعا لديهم قدرة عجيبة على قيادة الحراكات السياسية النظيفة المبهرة الى جحيم الطائفية او الى الضياع والهرج والمرج السياسي. هؤلاء يمتصون رحيق الشباب الطاهر المضحي النبيل لينتجوا عسلا كريه الرائحة بمذاق العلقم.

الثورة العربية الكبيرة المبهرة ستستمر, سترتكب الاخطاء وتتعثر لكنها ستقوم من كبواتها وستواصل السير. شعوب العرب يجب ان تتذكر الحكمة الإلهية من ان الزبد يذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض. ومنذ قرن وجه الشاعر رديارد كبلنج رسالة الى ابنه, منها قوله: اذا كنت ستواجه النصر والهزيمة بنفس العزيمة .. فانك ستملك الارض وما فيها, وفوق ذلك ستكون رجلا.