أمام استمرار الاعتداءات على أماكن العبادة وسفك دماء المصلين، وأمام ما نَراهُ من اعتداءات متكررة على أرواح المصلين الآمنين، أقول إن هذه الاعتداءات هى جريمةٌ كُبرى لا يقبلُها إنسان، فالمساجد والكنائس ودور العبادة هى بيوت الله، ومُصّلى للمؤمنين بهِ.

 

أرسى القرآن الكريم قبل أكثر من أربعة عشر قرنا قواعد أخلاقية وايمانية تحول دون استهداف أماكن العبادة وذلك فى كريم قوله تعالى: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» (الحج 40)

فمن فضل الله على الناس أنه جعل بعضهم يدفع بعضا بعيدا عن العدوان على أماكن العبادة، وقد قدم الله تعالى فى الآية السابقة أماكن العبادة لغير المسلمين على المساجد، وذلك حتى يجعلهم يحرصون على سلامة أماكن العبادة لغيرهم كما يحرصون على حماية مساجدهم، وليكون المسلمون قدوة لغيرهم فى الحفاظ على أماكن العبادة بأجمعها.

يؤكد القرآن الكريم أن منع حرية العبادة وتخريب المساجد هو من أقبح أشكال الظلم والعدوان «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا» (البقرة:114) فتدمير أماكن العبادة يمثل وجها آخر للإبادة الجماعية، وكما أن قتل انسان بريء واحد هو كقتل البشرية جميعا فإن تدمير مسجد أو مكان عبادة واحد هو بمثابة تدمير لحرمة أماكن العبادة لأتباع الأديان جميعهم.

يتعارض استهداف دور العبادة مع القواعد الاخلاقية والشرعية فى الاسلام، فالشريعة الإسلامية تقوم على مبدأ العدالة فى التعامل مع الناس جميعا. والتمييز بين الأهداف العسكرية والأماكن الدينية والمدنية الذى كان مبدأ اسلاميا أصيلا سبق اتفاقية لاهاى عام 1907 والتى نصّت على اتخاذ كافة التدابير اللازمة لتفادى الهجوم، قدر المستطاع، على المبانى المخصصة للعبادة والفنون والعلوم والأعمال الخيرية، والآثار التاريخية والمستشفيات والمواقع التى يتم فيها جمع المرضى والجرحى.

ينص الإعلان العالمى لحقوق الإنسان عام1948، على حق الانسان فى حرية العبادة وإقامة الشعائر بقوله: لكل إنسان حق فى حرية الفكر والوجدان والدين. ويشمل ذلك حريته فى أن يدين بدين ما، وحريته فى اعتناق أى دين أو معتقد يختاره، وحريته فى إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة.

إن استهداف الغلاة أو الطغاة لأماكن العبادة لا يقل خطرا عن استهدافهم للأماكن الأثرية والتراث الحضارى المعمارى وسعيهم لطمس الذاكرة الحضارية والانسانية. وهنا نستحضر ما قام به الغلاة بتدمير مقام النبى يونس فى الموصل عام 2014، واستهداف قلعة الكرك عام 2016.

ونذكر أيضا تحطيم الآثار الآشورية والكلدانية وتحفها النادرة الموجودة فى متحف الموصل، وفى مدينة نمرود التى تعد إحدى أهم عواصم الإمبراطورية الآشورية القديمة، وكذلك ما حدث من تدمير لآثار مدينة الحضر الأثرية التى تقع غرب مدينة الموصل ويعود تاريخها إلى القرن الثانى قبل الميلاد.

وفى هذه الأيام التى نعيش فيها ذكرى ميلاد المصطفى عليه الصلاة والسلام الذى أرسله الله رحمة للعالمين نستذكر النهج النبوى الذى نقتدى به فى قبول الاختلاف واحترام الآخر وأقول: لقد آن الأوان لأن نرفض خطاب الكراهية والاستقطاب الذى يثير الاحقاد ويبرر سفك الدماء. وهنا أشير إلى إجماع أكثر من 200 عالم من كبار علماء المسلمين فى مؤتمر رسالة عمان عام 2005 وتأكيدهم جميعا على حرمة تكفير المسلمين من مختلف مدارسهم الاسلامية وتحريم المساس بدمهم وعرضهم ومالهم. ولكن هذا الإجماع لا يزال بعيدا عن عقول وقلوب الغلاة المتعصبين الذين يمتهنون خطاب الكراهية والطائفية، وهنا أعود الى كلام الشوكانى -رحمه الله- حيث يقول: هاهنا تُسكَب العَبَرات، ويُناحُ على الإسلام وأهله بما جَناه التعصب فى الدين على غالب المسلمين من الترامى بالكُفر لا لسُنّةٍ، ولا لِقرآن، ولا لبَيانٍ من الله، ولا لِبُرهان، بل لمّا غَلت مراجِلُ العَصبيةِ فى الدّين، وتَمكنَ الشيطانُ الرجيم من تفريق كَلمة المسلمين (كتاب السَيل الجرّار).

وفى الختام أقول: إن كل اعتداء على المصلين الآمنين فى مساجدهم وأماكن عبادتهم انما هو اعتداء على القيم الجوهرية للدين. وعندما يعلن بعض الغلاة المنتسبين للإسلام مسئوليتهم عن قتل المصلين فى مساجدهم فإنما يقدمون للغزاة المحتلين تسويغا لإسقاط حرمة أماكن العبادة والاعتداء عليها فى المسجد الاقصى وفى الخليل وفى كل مكان.