الرسالة الملكية ..... مشروع نهضة

                                                             

   د. محمد أبوحمّور*

 

بعد ان تم الانتهاء من ارساء القواعد الاساسية لمسيرة الاصلاح السياسي والتي جاءت بمشاركة واسعة من مختلف الاطياف السياسية في المملكة وبمناسبة الذكرى السنوية الستين لعيد مولده الميمون بادر جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله بتوجيه رسالة الى أبناء شعبه الوفي، أضاء من خلالها على المفاصل والملامح الأساسية لمشروع نهضة يشمل الجوانب الادارية والاقتصادية والاجتماعية، وأكد استمرار العمل في سبيل نهضة الاردن وتطوره عبر استنهاض الهمم لمواكبة التغيرات المستقبلية واعداد العدة للتعامل معها بكفاءة وفاعلية واستثمار الفرص التي توفرها، وذلك من خلال الوعي بقدرات الوطن وامكانياته وتعزيز نقاط قوته ومعالجة الثغرات وفق رؤية منهجية علمية قادرة على الابداع والتغيير والتحديث الذي ينهض بمختلف مكونات الدولة ومؤسساتها وبما ينعكس على حياة المواطن ومستوى معيشته والخدمات التي تقدم له ليشعر بالتغيير الايجابي الذي لا بد ان يحفز المجتمع بكافة مكوناته على المشاركة الفاعلة في التغيير والتحديث.

ولعل أهم ما يلفت النظر في الرسالة الملكية التي احتوت العديد من الرسائل، انها موجهة لجميع مكونات المجتمع الحكومة والقطاع الخاص والمواطنين بمختلف فئاتهم، وهذا يعكس الرؤية الملكية التي تؤكد ضرورة المشاركة المجتمعية في تسييير شؤون الدولة الاردنية بحيث يتحمل كل في موقعه مسؤولية التحديث والتطوير والاصلاح، كما يعكس جدية القيادة الهاشمية في مواصلة العمل من اجل النهوض بالوطن وتوفير الحياة الكريمة للمواطنين، أضافة الى الشجاعة غير المسبوقة في تشخيص مواطن الخلل والتقصير وضرورة معالجتها، مع الوعي والادراك لمواطن القوة والمنعة التي يتمتع بها الاردن ، بل وأكثر من ذلك حيث رسمت الرسالة الملكية ركائز للمستقبل وخارطة طريق لمسيرة تطور ونمو مستدام تشارك فيها مختلف الجهات المعنية.

وقد أولت الرسالة الملكية الجانب الاقتصادي أهمية خاصة باعتبار ان هذا الجانب يشكل أولوية للسير قدماً نحو معالجة معضلة البطالة عبر توفير فرص العمل ورفع مستوى معيشة المواطنين وضمان نوعية حياة أفضل لهم من خلال انتهاج السياسات التي تحقق النمو المستدام الذي ينعكس ايضاً على استقرار المجتمع عبر توسيع الطبقة الوسطى والحفاظ عليها، وكان من الواضح أن هناك حرصاً ملكياً على استمرارية مسيرة الاصلاح والبناء على الانجاز وعدم السماح باعادة اختراع العجلة مرة اخرى عند اختلاف الاشخاص في موقع المسؤولية، ولذلك كان التوجيه السامي " بتنظيم ورشة عمل وطنية تجمع ممثلين من أصحاب الخبرة والتخصص في القطاعات الاقتصادية، وبالتعاون مع الحكومة، لوضع رؤية شاملة وخارطة طريق محكمة للسنوات المقبلة، تضمن إطلاق الإمكانيات، لتحقيق النمو الشامل المستدام، الذي يكفل مضاعفة فرص العمل المتاحة، وتوسيع الطبقة الوسطى ورفع مستوى المعيشة لضمان نوعية حياة أفضل للمواطن."  ومن المؤكد انه وبعد وضع رؤية متوافق عليها بين مختلف المكونات الاقتصادية للدولة لا بد من التأكد من انها ستشكل قاعدة للعمل المستقبلي وستخضع للرقابة والمساءلة، وهذا ما اشارت له الرسالة الملكية، حيث أوضحت ان " العمل جار على وضع آلية تكفل المتابعة الحثيثة لتنفيذ هذه الرؤية في كل القطاعات، وتضمن اتخاذ الخطوات الكفيلة بالتغلب على المعيقات، وهدفنا أن تسهم هذه الآلية في ضمان الاستمرارية ، وستخضع هذه الآلية لمتابعة شخصية من جلالة الملك، لتشكل الرؤية الوطنية الشاملة وما تتضمنه من خطط وبرامج، المرتكز الأساسي لكتب التكليف للحكومات، بحيث تبني على ما أنجزته سابقاتها، فيتواصل الإنجاز وتتحقق ثماره إصلاحات شاملة وخدمات فاعلة، وتطورا اقتصاديا وإداريا، وفرص عمل"، ولا شك بان الاهتمام والمتابعة الشخصية من الملك تشير بوضوح الى الاهمية غير العادية لهذه الخطوة وسوف تشكل ضمانة للاستمرارية والنجاح.

ولم تغفل الرسالة الملكية عن الاشارة بشكل مباشر الى مجموعة من الاجراءات التي لا بد من المباشرة بها لرفع سوية النشاط الاقتصادي ومن أهمها وضع الخطط والبرامج التي تحفز القطاعات الواعدة مثل السياحة والصناعة الرقمية والطاقة المتجددة والقطاع الزراعي الذي يساهم في توفير متطلبات معيشة المواطنين وكذلك قطاع السياحة العلاجية، وهذه القطاعات يمكن ان تشكل قاطرة لنهضة الاقتصاد الوطني ورسم قاعدة لنمو مستدام، كما تمت الاشارة أيضاً الى ضرورة العمل الجدي والفاعل ليس فقط لجذب الاستثمارات الاجنبية بل وأيضاً لتحفيز الاستثمارات الوطنية، وكما هو معلوم فان الاستثمار يشكل عاملاً اساسياً في رفع نسبة النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل، وهذا ما نحتاج اليه اليوم أكثر من أي وقت مضى، خاصة واننا ومنذ أكثر من عشر سنوات لا زلنا نعاني من تدني نسب النمو التي لم تصل حتى لما يعادل مثيلاتها من النمو السكاني.

ويشكل موضوع الشراكة بين القطاعين العام والخاص احد المفاصل التي لا بد ان نوليها أهمية خاصة، وبالرغم من عدم تحقيق انجازات مهمة في هذا الاطار خلال السنوات الماضية الا ان الفرصة لا زالت متاحة لتحقيق انجازات مميزة من خلال بناء شراكة حقيقية، وما يؤكد ذلك هو العديد من المشاريع والاستثمارات الناجحة التي انجزت خلال العقد الاول من هذا القرن، ونحن اليوم بحاجة فعلية لمثل هذه المشاريع خاصة في ظل تضاؤل قدرة الحكومة على الانفاق الرأسمالي وعلى بناء مشاريع البنية التحتية بسبب ضيق الحيز المالي المتاح واستمرار تفاقم عجز الموازنة والارتفاع المضطرد في الدين العام.

ومن الواضح ان الرسالة الملكية بينت بما لا يدع مجالاً للشك أهمية ودور القطاع الخاص في تعزيز النمو الاقتصادي وتوليد فرص العمل والمساهمة في نهضة الاقتصاد، وهذا يستدعي من الحكومة وأجهزتها المختلفة ان تعمل على ازالة المعوقات التي قد تعترض تطور القطاع الخاص وان تضمن بيئة ملائمة تكفل له القيام بدوره الحيوي في الشأن الاقتصادي، خاصة وان الحكومة وفي ضوء الاعباء التي تتحملها لم تعد قادرة على القيام ببعض الادوار التي قامت بها سابقاً، وحالياً هناك توافق على ان اتاحة المجال للقطاع الخاص وتعزيز دوره التنموي هوالسبيل الاقرب للواقع للتمكن من النهوض بالعديد من القطاعات الاقتصادية، وكما نعلم فقد اثبت القطاع الخاص الاردني انه كان دوماً رديفاً للدولة ومساهماً في تحقيق انجازات مميزة على مختلف الاصعدة.

ولدى الحديث عن الاقتصاد وما نطمح لبنائه مستقبلاً لا بد ان نعرج على موضوع الثقة بين المواطنين والمستثمرين ورجال الاعمال من جهة والحكومة من جهة اخرى، وقد كانت الرسالة الملكية واضحة في ضرورة الاهتمام بهذا الامر من خلال تعزيز الشفافية والتواصل، فالثقة والشفافية والمصارحة لها دور مؤثر في القرارات الاستثمارية ، والاهتمام بهذا الجانب يشكل عاملاً اساسياً في الثقة بالاقتصاد الوطني ورافعة لتطوره ونهضته، ومساعداً على تجاوز التباطؤ الذي شهدناه خلال السنوات الماضية، خاصة اذا اقترن بتنفيذ التوجيهات الملكية حول الاصلاح الاداري ومعالجة الاختلالات التي تعاني منها بعض المؤسسات وعدم جرأة أو قدرة بعض المسؤولين على اتخاذ القرارات المناسبة في وقتها، وكلنا نعلم ان الظروف الاستثنائية عادة ما تحتاج الى قرارات اشتثنائية وشجاعة بحيث تضمن التنفيذ العادل والفعال للقوانين والانظمة المرعية.

ولأن الرسالة الملكية ترسم الطريق لمستقبل أفضل فهي لم تغفل عن ما يشهده العالم من تغيرات وتطورات على مختلف الاصعدة، لذلك ونحن نعمل اليوم لتحسين واقعنا لا بد ان تكون لنا عين على المستقبل لنستطيع ولوجه بأمان وقدرة على الاستفادة من الفرص التي يتيحها عدا عن مواجهة التحديات التي يفرضها، فالمستقبل سيشهد اختفاء وظائف وظهور اخرى جديدة لذلك لا بد من بناء أنظمة تعليمية وتدريبية قادرة على مواكبة التغيرات المستقبلية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، وأقتصاد المستقبل سيعتمد الى حد كبير على المعرفة والذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية، وهي مجالات يستطيع الاردنيون ان يبدعوا فيها، ولا أدل على ذلك من النجاحات التي حققها الشباب الاردني في الريادة بمختلف مجالاتها، وكما يقال فان من لا يتجدد يتبدد لذلك فنحن مطالبون ان نكون على دراية واستعداد لما ستفرضه علينا التحديات المستقبلية وما تتيحه لنا من فرص فهذا هو السبيل لضمان نمو مستدام وقدرة على التأقلم مع المستجدات.

اليوم نحن أمام لحظة تاريخية فالرسالة الملكية هي رؤية لمستقبل مزدهر لا بد ان نعمل جميعاً بتكاتف وتشاركية لتحقيقه وارساء دعائمه المستندة الى الوعي بالتحديات التي نواجه وتلك التي ستواجهنا مستقبلاً، ولكن وفي نفس الوقت مدركون لقدراتنا وامكانياتنا ونقاط قوتنا التي تمنح الزخم والحافز والقدرة على الانجاز والسير نحو المستقبل وفق بوصلة تضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كل الاعتبارات ونسعى وفقها لتحقيق ما نطمح اليه من رفعة وتقدم وازدهار وقدرة على التأقلم مع مختلف المستجدات، والعمل من أجل التغيير الايجابي مسيرة طويلة ومتدرجة ولكننا نعلم انها سوف تصل بنا الى غد مشرق.[*]

 

 

[*]  وزير مالية ووزير صناعة وتجارة سابق، وأمين عام منتدى الفكر العربي.