العنف وفريضة اللّاعنف

شذرات من تجربة شخصية

 

عبد الحسين شعبان*

باحث ومفكر عربي

 

          لم أكن قد اخترتُ اللّاعنف تماماً كفلسفة وطريق للوصول إلى الحقيقة والعدالة، لكن ما أعرفه أنني كنت شديد النفور من العنف، بل أزدري مع نفسي في الكثير من الأحيان من يستخدمه أو يلجأ إليه، أو على أقل تقدير لا أشعر إزاءه بالاحترام، وإنْ بقي المفهوم مشوّشاً في ذهني وملتبساً إلى حدود غير قليلة،لاسيّما ثمة أهواء عديدة كانت تتنازعني ويشدّني بعضها إلى درجة الانجذاب، خصوصاً حين يتمّ تبرير اللجوء إلى العنف دفاعاً عن الحقوق والحريات والمستقبل المنشود، لاسيّما في مواجهة العنف بالعنف.

          أستطيع القول وبكل ثقة أنني كنتُ متأكداً من أنني ضد القتل، ولم أكن أستسيغ مثل هذا الفعل " الشنيع" من أي كان وتحت أية مبرّرات، لأنني كنتُ أعتقد أن ليس ثمة شيء في الدنيا يوازي قتل الإنسان أو محقه، وقد وقّعت منذ ثلاث عقود ونيّف من الزمان على مذكرة ضد "عقوبة الإعدام"، مثلما كنت ضد إرغام الإنسان على نزع معتقده أو التخلّي عن أفكاره باستخدام العنف ضدّه، حيث كانت شائعة في حينها فكرة "البراءة" أو نبذ العقيدة، وسيلة لإخراج السياسيين من دائرة السياسة، والمقصود بذلك حجب حق ممارسة السياسة عن المعارضين، والاكتفاء باحتكارها من جانب الموالاة .

          بين القاتل والمقتول

           كنتُ لا أزال فتىً أواجه العنف بشكل مباشر لأول مرّة، حين حدث خصام، تطوّر إلى عراك، فعنف بين صديقين لي، وإنْ لم يكونا من الأصدقاء المقرّبين، لكنّني كنت على علاقة طيبة بكليهما، فقام أحدهما واسمه عامر من آل العامري وشيخ عشيرتهم " مهدي العبد" بقتل أكرم أبو كَلل وشيخ عشيرتهم "عطية أبو كَلل" ثم انتقلت منه الزعامة إلى ولده الشيخ "كردي أبو كَلل".

          القاتلُ والمقتولُ كانا قريبين منّي. والغريب إن تلك الحادثة  لم تمرّ مرور الكرام، بفعل وقوع المحذور في لحظة طفولية أدت إلى القتل، حين كان كلٌ من المتخاصمين يمكن أن يلتجئ إلى استخدام السلاح، كما هو شائع بفعل عداوات ومنافسات وعنعنات، بعضها يعود إلى الماضي،  لكن تداعيات تلك الحادثة وتفرّعاتها وتشابكاتها كانت كثيرة ومتشعّبة ومختلفة، وخصوصاً تركتها الاجتماعية.

          القاتل كان أقرب إلى معسكر اليسار والحركة الشيوعية، والمقتول كان أقرب إلى المعسكر القومي، وهكذا اتّخذت بعض ردود الفعل ذات الطابع الصبياني، بُعداً سياسياً، إضافة إلى بُعدها العشائري، بالانحياز المسبق لهذا الطرف أو ذاك، سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر.

          وبعد فترة وبفعل ردود الأفعال، قَتَلَ أحمد هندي أبو كَلل  شقيق المقتول، شيخ آلبو عامر "مهدي العبد"، وكان هذا من "أنصار السلام" حينها، ثم قام بعض مسلحي ألبو عامر في وقت لاحق، بقتل أحد أنسباء ألبو كَلل وهو كليدار حضرة الإمام علي، السيد حسن الرفيعي، وتبريرهم إن أحمد هندي أبو كَلل حين قتل مهدي العبد، ثأراً لأخيه كان يختبئ في منزله، وقام بإطلاق النار عليه ليرديه قتيلاً خلال مروره من أمام منزل الرفيعي.

          لقد عشتُ تلك الأحداث بتفاصيلها، وكنتُ أشعر بالعطف على الطرفين (أكرم وعامر): المقتول والقاتل، فضلاً عن إن أحمد هندي أبو كَلل كان صديقاً لعمّي شوقي، مثلما كان المقتول مهدي العبد صديقاً لعمي ضياء. ولعلّ هذا الشعور لم يفارقني لفترة طويلة، إذْ كيف أستطيع التمييز بين طرفين كلاهما ضحية. ربما تعود حيرتي لأنني ضد مبدأ القتل أصلاً، وأعتبر القاتل مثل المقتول ضحية العادات والتقاليد الاجتماعية ، التي تجعل من ممارسة العنف لدرجة القتل، نوعاً من أنواع الشجاعة والرجولة والكرامة التي تستحق التمجيد والثناء والاعتزاز، ولأن المقتول مثل القاتل كان يمكن أن يلتجئ إلى القتل لولا أن القاتل سبقه بضربة بسكين حادّة أخرجت أمعاءه  ليخرّ صريعاً على الأرض وسط ذهول المارّة.

          وقد عاشت تلك الحادثة معي طويلاً بكل تناقضاتها، وكان عطفي مثل سخطي ينصبُّ على الطرفين اللذين كانا ضحية العنف، فمن يمارس العنف ضد الآخر، إنما يقوم بنزع إنسانيته هو بالذات، لا إفناء الآخر فحسب، وتلك محنة مزدوجة، سواء من يقع عليه العنف، أو يوقع العنف على غيره. وكنتُ أذهب أبعد من ذلك لأضع أسباب أخرى لما يحصل  على الجهل والتخلّف والأميّة والعادات والتقاليد الاجتماعية البالية، بل أجد في نظام الاستغلال سبباً جوهرياً في استمرار مثل تلك الظواهر، ولم يكن الأمر يتم بعمق مطلوب، بل كان يجري ضمن شعارات عامة ومقولات مكرّرة.

          وأستطيع القول إن الوضع السائد آنذاك والمستوى الثقافي والفكري لم يجعلني أتحوّل تماماً إلى اللّاعنف، على الرغم من أن بذوره كامنة، لكنه لم يشكّل قطيعة نهائية بالنسبة لي مع العنف، بحكم وجود مبرّرات أخرى لاستخداماته لأغراض آيديولوجية وسياسية، وذلك تحت ذرائع ومسوّغات مختلفة.

          العنف المجنون

           بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 انخرطت مثل العديد من أبناء جيلي في وقت مبكّر في العمل السياسي والمهني، وذلك حتى قبل اكتمال وعيي وقبل أن تدركني مهنة الحرف التي اكتسبت بُعداً أكاديمياً فيما بعد. وكان الانتماء العاطفي تحت عناوين ثورية ويسارية، هو السمة السائدة حينذاك، في البحث عن الحقيقة والطريق نحو العدالة، لاسيّما وإن الحرّية كانت شحيحة، والمساواة مفقودة والعدالة ضائعة والمشاركة غائبة. ومثل تلك الانتماءات كانت جميعها تقريباً تمجّد العنف وتعتبره وسيلة لا غنى عنها لتحقيق أهدافها، بل إن العنف حسب التعبير الماركسي كان "قاطرة التاريخ" لتحقيق التغيير المنشود، وحسب وصف ماركس فـ " الحروب كالنار تُجلي صدأ التاريخ".

          وقبل ذلك صادف أن حدث العدوان الثلاثي على الشقيقة مصر في العام 1956 حين انتفض العراق من أقصاه إلى أقصاه، وسقط العديد من الشهداء بينهم ثلاثة من أبناء مدينتي "النجف" العزيزة أو "خدّ العذراء" كما تكنّى، وكانت موجة العنف الجديدة في العراق، قد ترافقت مع قيام "حلف بغداد" وتشريع عدد من القوانين ذات العقوبات الغليظة بزعم مكافحة  "الأفكار الهدّامة"،وذلك بعد عقد من الزمان طغى فيه العنف، ابتدأ بإعدام 4 من الضباط المشاركين في حركة رشيد عالي الكيلاني وهم  صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد وكامل شبيب ومحمود سلمان والسياسي يونس السبعاوي، والتي تم الإجهاز عليها بإعادة احتلال بريطانيا للعراق وشن الحرب عليه العام 1941، وإعدام قيادة الحزب الشيوعي المتمثّلة بحسين محمد الشبيبي ومحمد زكي بسيم ويهوّدا صديق، وعلى رأسها يوسف سلمان يوسف "فهد" (أمين عام الحزب) العام 1949.

          دولاب العنف

          حين حدثت ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، كان قد بدأ العنف معها منذ اليوم الأول حيث دار دولابه بصورة متسارعة، مبتدئاً بقتل العائلة المالكة، وقد حدث الأمر بنوع من التشفّي والانتقام والقسوة، حيث تم تعليق جثة الوصي على العرش الأمير عبدالإله، على شرفات أحد فنادق الكرخ وظلّت مدلّاة هناك، والناس ترشقها بالبيض والطماطم والأحذية، وقد رويت في حوار لي مع الإعلامي توفيق التميمي والمنشور في كتاب صدر عنّي بعنوان "المثقف في وعيه الشقي - الصوت والصدى"، كم كان المنظر بشعاً وسادياً ولا إنسانياً، وكم ترك تأثيراً سلبياً عليّ إزاء ظاهرة العنف وامتهان كرامة الإنسان والتمثيل به، لاسيّما مناظر السحل الهمجية وانفلات الغرائز وانفتاح الشهية للدم والقتل بشراهة ووحشية لم يعرف العراق مثيلاً لها من قبل.

          وحين قُتل نوري السعيد أقوى رؤوساء الوزارات في العراق وأكثرهم دهاءً، وتم سحله في الشوارع، تلاقف الجمهور بفرح غامر وتلذّذ مقزّز أجزاء من جسده، لتنتقل من محلّة إلى أخرى في بغداد. وحتى المحاكمات التي حصلت فيما بعد لم تستوفِ شروط "المحاكمة العادلة" كما نعرفها بعد دراستنا لها، ناهيك عن قتل وتبشيع بالضحايا حصل خارج القضاء في الموصل وكركوك العام 1959، وذلك في إطار موجة منفلتة من العنف شملت الشارع العراقي، لاسيّما حين هيمن اليسار على المشهد السياسي، وحاول إقصاء الآخرين أو تهميشهم.

          لكن اليسار هو الآخر تعرّض للتنكيل بعد حين، بل إنه عانى من ضربات قاسية بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963، حيث اتّسعت دائرة العنف، لاسيّما المنفلت من عقاله، والذي تجلّى بإصدار بيان رقم 13 ممّا يسمّى " مجلس قيادة الثورة" القاضي بإبادة الشيوعيين، حيث مورس القتل بدم بارد من خلال هيئات غير نظامية عُرفت باسم "الحرس القومي" وراح ضحيته المئات من قياداته وكوادره والآلاف من أعضائه وأنصاره.

          وشملت الحملة لاحقاً شنّ هجوم ضد كردستان والشعب الكردي أطلق عليه وزير الدفاع  صالح مهدي عماش حينها بأنه "نزهة" ستنتهي بالقضاء على الحركة الكردية، ولكن ببع الحكم الجديد سقط وهو مثقل بارتكاباته  وعلى يد بعض أقطابه، لتبدأ مرحلة جديدة اتّسمت بعنف مقنّن، بعد أن انفلت العنف على مصراعيه.

          عنف مضاد

          وكان أن بدأ عنف المعارضة، حيث اتّخذ فريق يساري انفصل عن الحزب الشيوعي عُرف باسم "القيادة المركزية" بقيادة عزيز الحاج قراراً بممارسة عنف مفتوح ضد عنف السلطة الحاكمة، التي انقضّت عليه لتقتل شباباً بعمر الزهور بينهم أزهر صالح الجعفري أحد أصدقائي المقرّبين وكذلك سامر مهدي، وقد حصل الأمر في ظرف غامض وملتبس العام 1968، وكان قد سبق ذلك مقتل خالد أحمد زكي، الثوري الحالم المتأثر بجيفارا والذي قَدِمَ من لندن  حيث كان يدرس، ليذهب إلى الريف وأهوار الجنوب، ليقود كفاحاً مسلحاً، كان هو أول ضحاياه.

          وحين حصل الانقسام داخل الحركة الشيوعية (17/أيلول/سبتمبر/1967) كادت علاقتي بها أن تتصدّع، بسبب الخلافات التي اتّخذت طابعاً عنفياً، وإنْ كنت أميلُ إلى المجموعة الأكثر عقلانية والأقل عنفاً، لكنها هذه هي الأخرى لم تسلم من ممارسة العنف خارج القضاء. وكانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير كما يُقال، هي مقتل الشاب سامي مهدي الهاشمي العام 1968 الطالب في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية(وكنت قد تخرّجتُ من الكلية ذاتها في وقت سابق)، والذي كان محسوباً على فريق القيادة المركزية على يد ثلّة متهوّرة، وتركت تلك الحادثة غصّة في نفسي.

          وكنتُ قد أدنتُ الأمر علناً ومن أي أتى، بل إنني كنت الوحيد الذي شارك في تشييع المغدور وحضرتُ لثلاثة أيام مجلس الفاتحة في جامع براثا في العطيفية، ووقفت صفاً إلى صف إلى جانب شقيقه سعدون الهاشمي وهو ما وفّر حصانة لي في حين اضطرّ الآخرون إلى التواري عن الأنظار، حيث راجت الاتهامات ضد تنظيم اللجنة المركزية،  الذي كنت أنتمي إليه، وكانت جماعة القيادة المركزية قد قرّرت الانتقام منها، كما إن حضوري مجلس الفاتحة وعلاقتي بشقيق المغدور وفّر لي حصانة أخرى من جانب الحكومة ذاتها، التي كانت تتفرّج على ما يحصل، خصوصاً وإن موقفي شديد الوضوح بإدانة العنف ومطالبتي بالكشف عن المرتكب ليتخذ القضاء مجراه من جانب الحكومة التي لم تحرّك ساكناً، ومن جانبنا طرده من صفوفنا على أقل تقدير، وكان ذلك سبباً إضافياً في تصدّع العلاقة بالحزب، خصوصاً حين طالبتُ بمحاسبة المسؤولين.

          وفي حوار لي مع القيادي البعثي زهير يحيى (عضو قيادة قطرية احتياط- وسابقاً عضو فرع بغداد) وكان من أصدقائي المقرّبين، وكنّا قد هوجمنا في ساحة السباع حين كنّا ننظّم احتفالاً لمناسبة الذكرى الـ 51 لثورة أكتوبر (نوفمبر/ تشرين الثاني) 1968، وقتل ثلاثة منّا وجرح 12 شخصاً، وقبل ذلك كان الهجوم على عمال الزيوت في بغداد، قلتُ له إذا بدأتم بالعنف، فالأمر ستكون نهايته وخيمة، ولن ينتهي العنف إلّا بالعنف والعنف المضاد، وذلك سيعني ضياع التجربة التاريخية والدرس الذي يمكن أن نتعلّمه جميعاً، وأقصد إنهاء العنف والجلوس إلى طاولات الحوار، وهو ما كنتُ قد اُعتمدت للقيام به في قطاع الطلبة وفي الوقت نفسه في قطاع حقوقي، ولاسيّما في التحالف الذي انبثق في إطار جمعية العلوم السياسية التي التحقت بجمعية الحقوقيين لاحقاً، حيث كنت ممثلاً للحزب في القطاعين.

          وبالمناسبة تعود علاقتي بسعدون الهاشمي شقيق المغدور إلى هروبه من سجن الحلّة في خريف العام 1967 حين تم حفر نفق ليخرج عشرات من السجناء إلى فضاء الحرية.  وكنت قد ساهمت في إنقاذه، حين نظّمنا سفرة طلّابية، إلى سدّة الهنديّة وفي طريق العودة قمنا بنقله إلى بغداد، لأضعه جنبي ومعه شقيقه سامي وسليم الربيعي، بسيارتي بعد وصولنا إلى علاوي الحلّة، وأقوم بنقله إلى منطقة الزوّية ببغداد، واستمرت علاقتي الوثيقة بالهاشمي في الشام حيث أصبح عضواً في قيادة الجبهة الشعبية - القيادة العامة . وقد رويت في أكثر من مناسبة حكاية هروب السجناء من سجن الحلّة، تلك التي أبدع فيها حسين سلطان " أبو علي".

 

--------------------------------------------------------------------------------------------------------

* مفكر وباحث عربي من العراق، له عدد من الكتب في قضايا الفكر والقانون والسياسة والأديان والأدب والثقافة والنقد. أستاذ القانون الدولي وحالياً نائب رئيس جامعة اللّاعنف وحقوق الإنسان في جامعة أونور(بيروت) .

" لقد درست نظرية اللّاعنف، ولست بعيداً عن الخلوص إلى أنها تمثّل حقيقة، حَرِيّة  أن يبشّر بها بالمثال، لكنها تستلزم عظمة لا أتّصف بها"  ألبير كامو  بوحٌ متأخر