د. يوسف الحسن
تبدو الأمة العربية في الظروف الراهنة، شعوباً ونظماً ومؤسسات مدنية، وكأنها تدور حول نفسها، تضرب كفاً بكف، وتُحوقل وتستعيذ بالله من الشياطين، إنساً وجِنّاً، سياسة وأمناً واقتصاداً، ثعالب وذئاباً. ولا غرابة في ذلك، لأن حالة الانهيار وصلت إلى مستوى قاسٍ وصعب، وتعددت مسارح التمزق في العالم العربي، وتلاحقت الأزمات والحروب فيه وعليه، وراحت دول في النظام العربي تخاطب العالم والإقليم بأجندات متباينة، وبحسابات غير مدروسة، إن لم تكن بائسة، وانكشف الأمن القومي العربي، بتفرعاته المختلفة، ماءً وغذاءً وثقافة وتقانة وأمناً إنسانياً، وحدوداً تاريخية.. إلخ.
فضّل البعض السير بمحاذاة الجدران المتداعية، وتعاطى بعض آخر مع أدق القضايا العربية باستخفاف، ونسب التخلف والتشرذم والضعف إلى مجاهيل، واتسعت الصدوع بين عدد من الأقطار العربية.
حالة الإرهاق أصابت أيضاً الشعوب العربية، ليس فقط بسبب توالي المحن، وتعاقب الأحداث الزلزالية، وكوارث النزاعات في الصومال وسوريا والعراق واليمن والسودان، والخلافات السياسية الداخلية والبينية، والأزمات الاقتصادية والتنموية، وإنما كانت هناك عوامل موضوعية أخرى ساهمت في تعميق هذا الإرهاق والقهر، وغلَّبت الأثرة على الإيثار، والرغيف على الحقيقة والحرية، حتى باتت بيانات المناشدة أو الشجب أو التعبير عن القلق، بديلاً عن فعل التضامن والتعاون والتكامل، وصار حضور النظام العربي الرسمي، وحضور صوت الناس في آن، مساويين للغياب.
يبدو الإنسان العربي البسيط، بمكوناته المتنوعة والمتعددة، مستفزاً في وجدانه، متوجساً على حاضره، خائفاً على أمنه ولقمة عيشه وكرامته ولغته وهويته، بعد أن ضعفت قدرة معظم نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية على ضمان الحريات والعدالة والتنمية المستدامة والسلم المجتمعي، وعلى توفير حوكمة رشيدة ونظم مساءلة، وضاقت الخيارات إلى حد كبير أمام الأجيال الشابة.
أما في قطاعات الثقافة والنخب الثقافية والمدنية، فحدّث ولا حرج، حيث تبدو نزعة مزمنة للفرار من مواجهة القضايا المفصلية إلى الثرثرة في المقاهي والمؤتمرات وشاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي، وتناول قضايا «معلبة»، بعيداً عن ترسيخ قيم حوارية، وأفكار للنهوض وبلورة مشروع نهضوي ثقافي عربي، وتوفير لقاحات باسلة ضد الترويع والتشظي في حياتنا العربية.
جماهير حائرة يتحول غضبها في معظم الأحيان إلى زفير تائه في الفضاء، أما زبد الغضب فهو من نصيب قادة النخب المثقفة، ينتظرون خروج الناس إلى الشوارع لحملهم على الأكتاف.
هكذا هو الحال، إلا من كُوَّة أمل هنا أو هناك تعاند انقطاع الوعي، وتراهن على ما يحمله الغد في طياته من مفاجآت.
دروس غزة، وتراجيديا السودان ومجتمعات عربية أخرى، والزهايمر السياسي الذي أصاب مؤسسة النظام العربي، بقدر ما تنتج مفاهيم نفسية مقلقة، بقدر ما ستنتج أسباباً إضافية للتطرف والعنف، خاصة مع استمرار مراوغة الثعالب في النظام الدولي، وشيوع ثقافة الترويع والردع المدني، وازدواجية المعايير في العلاقات الدولية، واستحضار وصمة العار التاريخية التي مورست ضد الشعوب الأصلية في عدد من القارات في القرون الماضية، عار الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، وتلميعه وتغذيته، بل و«تقديسه» إلى حد كبير.
إعادة التوازن في الجسم العربي، ومعالجة البوصلة التي انعطبت، والهوان الذي زاد منسوبه وحجمه، هما في مصلحة الجميع، ويستدعي منا جميعاً قرع الأجراس.
.......
ما أصعب التنفس في عالم ينهار أخلاقياً وضميرياً، ويترك شعوباً ومدناً تنزف.