د. يوسف الحسن
يمكن القول: إن المرجعية الحضارية والموروث التاريخي، لأي مجتمع وهويته الثقافية، هي معطيات ثابتة ومهمة في معادلات القوة، والمحرك للتطور والطموح، وإن المجتمعات التي لا تملك حِسّاً تاريخياً مرجعياً، وتراثاً ثقافياً مشتركاً، تقع، في أغلب الأحيان، في حفرة من الانغلاق الاستراتيجي، وتحاول إدراك ذاتها بهوية مزورة، فتدخل في أزمة مع ذاتها ومع محيطها.
وفي الوقت نفسه، فإن المجتمع الضعيف في وعيه بتراثه وذاكرته التاريخية، لا يستطيع أن يترك بصمته على مسرح التاريخ، أو اتخاذ قرارات استراتيجية، ويبقى أسير اليأس والهزيمة.
وفي ضوء هذه المعطيات، يمكن إدراك خطورة الأهداف التي تقف وراء التدمير المتعمد للتراث الثقافي والموروث التاريخي الذي يتم خلال الحروب والصراعات، ومن أهم هذه الأهداف: طمس الهوية، وإخضاع الخصم والقضاء على الذاكرة، وتفكيك العلاقة التي كانت تربط أعضاء المجتمع بتراثهم.
إن التراث الثقافي، بما فيه عناصر حيوية، من معارف وممارسات وقيم ونظم تقليدية في حقول مختلفة، اقتصادية وبيئية وتعليم وموارد، فضلاً عن التلاحم المجتمعي والنسيج الاجتماعي والتقاليد، وكلها عناصر تمنح الشعور بالانتماء والاستمرارية مع الموروث، مع القدرة على التكيف والتطور، مع التغيرات الاجتماعية والصراعات، وبما يحقق بناء الثقة في المجتمع ويوفر مساحات مشتركة للحوار.
من الأهمية بمكان، العمل على دمج الثقافة والتراث كمكونين رئيسيين في خطط وبرامج التنمية الوطنية، وبذل الجهود لرفع الوعي بالتراث الثقافي والمحافظة عليه، وتعميق الاتصال بهذا الموروث التاريخي، وفي إطار استراتيجيات قائمة على الثقافة والتعليم، مما يساعد المجتمعات للاستجابة الواعية والفاعلة، لمخاطر النزاعات والحروب التي تهدد حياة الإنسان وسبل عيشه، وتجعل الناس أكثر قدرة على التحمل والصمود في الكوارث والأوبئة والتغير المناخي والصراعات.
إن الموروث من الماضي، سواء كان معارف أو عُمراناً أو ذاكرة، بحاجة إلى إدراك عبره ودروسه، والتوافق على جوهره وروحه، من أجل إدامته عبر الأزمنة، وحمايته من أنواع المخاطر كافة، وهنا يبرز دور المجتمع والناس في صمود هذا التراث واستدامته، وترسيخ الشعور بالارتباط به، وبناء القدرات لإدارته وصونه، وتعزيز ثقافة احترام الممتلكات الثقافية والتراث.
إن تطوير الوعي لدى الأجيال الشابة بالتراث، ضرورة وطنية وإنسانية، لأنه كلما تدّنى مستوى الوعي كلما أمكن لأطراف الحروب والصراعات، الاستهانة بتدمير التراث، أو حتى المتاجرة فيه كما حدث في عدد من الدول العربية.
ومن أسف، فإن أغلب المهتمين أو الزوَّار، بالتراث المادي وغير المادي الثقافي ورموزه من آثار ومتاحف، ومبانٍ ومواقع، هم السائحون الأجانب، ونادراً ما نرى تلاميذ المدارس، أو نادراً ما نجده في محتويات المناهج الدراسية.
إنها مسؤولية مجتمعية، للأسرة والمدرسة والإعلام والدراما.. الخ. ويذكر التاريخ أنه في أثناء الحرب العالمية الثانية، تشكلت فرقة من جنسيات أوروبية، فيها فنيون ومسؤولو متاحف وأرشيفات، وسميت بفرقة حماية التراث، وقامت هذه الفرقة بإخفاء آلاف اللوحات الفنية، وملايين من الوثائق.
كما قام سكان مدينة فيينا النمساوية بحماية تراثهم في أثناء الهجوم العسكري البريطاني على مدينتهم في عام 1945، وقد ذهب أهالي المدينة، صغاراً وكباراً، إلى البنوك والمتاحف، ومؤسسات الدولة، وأخذ كل شخص ما قدر على أخذه من مسكوكات ذهبية وتحف وآثار ووثائق، ومن بينها جوهرة للإمبراطور النمساوي وصولجانه، حتى لا يتمكن العسكر البريطانيون من نهبها.
وفي العام 1955، نالت النمسا استقلالها وحيادها، وبدأت تعيد بناء نفسها، وقام كل مواطن نمساوي بإعادة ما أخذه إلى المتاحف والبنوك والمؤسسات، ولم يبع أحد تراثه وآثاره، ولم يقم بنهبه وسرقته، وقد نشر هذه الرواية التاريخية طبيب نمساوي عاصر الحرب.
........
بشر ومدن وتراث في أكثر من مكان في الوطن العربي. تئن من الأوجاع والجراح والصراعات التي لا تهدد الأرواح البشرية فحسب، بل التراث والهُوية والذاكرة أيضاً.