مقالات الامير حسن

هى ليلة تصفو فيها قلوب السائلين ويختلون بخالقهم ومعبودهم، وفيها يستشعر العابدون قَدْرَ إيمانهم، ويشهد فيهَا العارفون قَدْرَ محبوبهم، وتشرق الأرواح بما يتنزل فيها من أنوار الهداية والعناية الإلهية.  

 

لقد جمعت هذه الليلة الشرف والْقَدْرِ كلّه، حيث خصّها الله وشرّفها بخصائص فريدة وأهمها كما يقول الإمام الزهري: «لأنه نزل فيها كتاب ذو قَدْر، على لسان ملك ذى قَدْر، على أمّة لها قَدْر.». إنها ليلة التكريم والتشريف للقرآن وهو تشريف له ثلاثة أوجه يذكرها الزمخشرى فى تفسيره لآيات سورة القدر، أولها: أنه تعالى أسند إنزاله إليه وجعله مختصا به دون غيره، فقال(إنا أنزلناه) والثاني: أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر، فقال (أنزلناه) ولم يقل (أنزلنا القرآن) شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه، والثالث: الرفع من مقدار الوقت الذى أنزل فيه. بأن قال (فى ليلة القدر). 

لن نجد كتابًا فى تاريخ الأمم والشعوب يحفظه الناس بقلوبهم ويتلونه بألسنتهم كما يتلو المسلمون القرآن ويحفظونه. فهو الكتاب الذى تترنم فى ذكره ألسنة الأمم والشعوب وهو الكتاب الذى رفع الله به ذكر العرب وجعله روحًا لعروبتهم واتخذ من لغتهم وعاء لكلامه العزيز ورسالته الخاتمة. وهنا أشير لقول المستشرق (فون هامر) فى مقدمة ترجمته للقرآن:"القرآن ليس دستور الإسلام فحسب، وإنما هو ذروة البيان العربى، وأسلوب القرآن المدهش يشهد على أن القرآن هو وحى من الله".  

اكتسبت أمة الإسلام رسالتها ومكانتها بين الأمم من قدر القرآن وشرفه، فالقرآن هو عزّ المسلمين وعنوان كرامتهم، وهنا أذكّر بالمواقف المشرفة لكثير من الدول والمؤسسات الإسلامية التى تنشر كتاب الله وتترجمه إلى مختلف اللغات والألسنة وتتصدى لكل محاولات الإساءة للقرآن الكريم.  

إنها ليلة الاحتفاء بتنزيل آخر الكتب الإلهية على قلب خاتم الأنبياء والمرسلين ليكون مصدقًا ومؤتمنًا على جميع كتبه تعالى المنزلة على رسله المُكرمين. «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ» (المائدة:48) ومن تأكيد القرآن على هذه العلاقة العميقة بين الكتب الإلهية يأتى الالتقاءُ على كلمة سواء ويترسّخ الوئام بين أتباع تلك الكتب. من تكريم الله لهذه الأمة أن جعلها «أُمَّةً وَسَطًا» لتكون شاهدة على الناس، وحتى يشعر المسلمون بمسئولية هذه الشهادة وأهميتها جعل الله رسوله عليه الصلاة والسلام شهيدًا على شهادة أمته «وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا».والشهادة التى يجب أن تتمثلها الأمة فهى فعل اجتماعى يتطلب العدل والاعتدال والقوة والسّبق فى الخيرات، والجمع بين هذه المتطلبات يستدعى توسيع معنى الشهادة من دائرة الانفعال الدينى إلى الفعل الحضارى، ومن مُجرّد الشهادة الظاهرية الرقابية إلى الانخراط العملى فى تقديم أُنموذج حضارى توحيدى يجمع بين الحقائق الإيمانية والقيم الأخلاقية من ناحية وبين المعارف الكونية والنظم الاجتماعية من ناحية ثانية. 

لم تكن الخيرية التى وصف الله بها الأمة الإسلامية بقوله: " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ " خيرية عرقية تفضى إلى تقديس الذات والانفصال عن الناس، وإنما كانت «خيرية فعّالة» تقوم على التعارف والتعاون والتواصل مع مختلف الأمم والشعوب، ومن أعظم تجليات تلك الخيرية الفعالة أذكرُ ركن إقامة الزكاة الذى يحقق التنمية والعدالة الاجتماعية بين الناس ويعالج الاختلال والظلم فى توزيع الثروات. 

من المعانى المتصلة بليلة القَدْر هى أن ندرك قيمة الوقت وأهميته فى حياتنا، فالزمن يكون فى أعظم تجلياته عندما تتجسد فيه حقائق الهداية والبركات والرحمات بين الناس، وقيمة الزمن إنما تكون عندما يتقدم الإنسان نحو تحقيق أهدافه وغاياته، فربَّ ليلة واحدة تتجلى فيها أنوار الهداية ويعرف الإنسان فيها غايته ورسالته خير من ألف شهر يهيم فيها الإنسان على وجهه ولا يعرف لنفسه غاية ولا رشدا.  

وكما اختار الله من الأزمان أوقاتًا مخصوصة باركها وفضّلها على سائر الأزمان، فقد اختار من الأماكن ما شاء، كما هو الحال مع المسجد الحرام والمسجد الأقصى. وليس من قبيل المصادفة أن تجتمع ليلة القدر والتنزيل بليلة الإسراء إلى المسجد الأقصى ومن ثم المعراج إلى السماوات العلا، فكلاهما قد حدث فى الليل وكلاهما أظهر الله فيه لطفه بخلقه وتجلت فيه قدرته وعجائب آياته. 

لقد توافق فى هذه الأيام المباركة مجيء شهر رمضان مع الصوم الكبير والفصح وأحد الشعانين لدى إخواننا المسيحيين، والشعانين هو يوم ذكرى دخول المسيح عليه السلام إلى مدينة القدس، واستقبال أهالى المدينة له بسعف النخيل وأغصان الزيتون، وهو التقليد الذى ما زال العرب المسيحيون فى المشرق يقومون به فى القدس إلى يومنا هذا. 

وهنا أشير إلى استغلال الاحتلال لتزامن الأعياد الدينية فى القدس والمسجد الأقصى وتحويله إلى حجة للاقتحامات والصدامات وهو ما يجعلنا نستحضر الرعاية والوصاية الهاشمية الأردنية لمدينة القدس وأهمية الالتزام بإدارة الفضاء الدينى والثقافى للمدينة والاهتمام بحياة المقدسيين ودعم صمودهم. 

إن استحضار عمق العلاقة بين مكة المكرّمة والقدس الشريف يمثل قوة داعمة لحماية المدينة المقدسة والحفاظ على هويتها الروحية والثقافية، والسؤال الذى يحضرنا هنا: كيف نجعل من دروب الحج وحركة الأسفار حراكًا للعقول ودروبًا للأفكار؟ 

إن من أعظم الصفات التى وصف الله بها هذه الليلة هى السلام «سَلامٌ هِيَ حتى مَطْلَعِ الْفَجْرِ».  وهذا يؤكد أن السلام فى الإسلام يمثل قيمة إيمانية أساسية تقترن بحقيقته تعالى الذى أنزل كلامه فى هذه الليلة المباركة. وهذا يعنى أن السلام الروحى الإيمانى لا بد أن يفضى للسلام فى الأرض وتحقيق السعادة لبنى الإنسان. وهذا المعنى يذكّرنا بما جاء فى الإنجيل:  

«الْمَجْدُ للهِ فِى الأَعَالِى، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ» (لوقا 2 : 14).  

لا يمكن تحقيق السلام فى مجتمعاتنا البشرية دون تجسيد معانى الرحمة والقسط بين الناس. ولذلك جاءت رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم للعالمين رحمة للعالمين «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (الأنبياء :107) واقترنت هذه الرحمة بإقامة القسط الذى يمثل الغاية من عموم شرائع الله. «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (الحديد:25) ويشير قوله تعالى:«الكتاب والميزان» إلى قيمة الوسطية والاعتدال التى تعظِّم الجوامع وتحترم الاختلاف. 

لا بد للأعياد الدينية أن تكون فرصة لتجديد التكافل والتضامن وأساسا للنهضة المتجددة وأن تحفزّنا على إعادة التفكير بالمضامين الروحية والأخلاقية للدين، وخاصة تلك التى تعلى قيمة الإنسان وترتقى بعقله وتزكى قلبه، وهذا لا يمكن تحقيقه دون فهم مقاصد التنزيل التى تجتمع عليها شرائع المرسلين ودون تلمس أنوار الهداية فى كتابه المبين.